فصل: تَفْرِيعَاتٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***


فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏فِي الْقَوْلِ عِنْدَ وُقُوعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ‏]‏

وَقَدْ يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ شَيْءٍ لِلتَّنْبِيهِ لِأَمْثَالِهِ؛ فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 67‏)‏ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ شُجَّ يَوْمَ أُحُدٍ‏.‏

وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ كَانَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَسُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْأَخِيرِ، فَالْمُرَادُ الْعِصْمَةُ مِنَ الْقَتْلِ‏.‏ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَمِلَ كُلَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، فَمَا أَشَدَّ تَكْلِيفَ الْأَنْبِيَاءِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 32‏)‏ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ‏.‏

وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا- وَنُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ- كَانُوا يَقُولُونَ‏:‏ النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ بِعَفْوِ اللَّهِ، وَدُخُولُ الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِهِ، وَانْقِسَامُ الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ بِالْأَعْمَالِ، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا نَزَلُوا فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ‏.‏ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْبَاءَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَدْلُولُهَا مُخْتَلِفٌ، فَفِي الْآيَةِ بَاءُ الْمُقَابَلَةِ، وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَعْوَاضِ؛ وَفِي الْحَدِيثِ لِلسَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ بِعِوَضٍ قَدْ يُعْطِي مَجَّانًا، وَأَمَّا الْمُسَبَّبُ فَلَا يُوجَدُ بِدُونِ السَّبَبِ‏.‏ وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ هَذَا الْجَوَابَ وَقَالَ‏:‏ الْبَاءُ فِي الْآيَةِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَفِي الْحَدِيثِ لِلْعِوَضِ، وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ‏:‏ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَنْجُوَ بِعَمَلِهِ، قَالُوا‏:‏ وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا‏:‏ ‏{‏فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 59‏)‏، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ بَقِيَ لَمْ يُخْلَقْ فِيهِ شَيْءٌ‏.‏ وَالظَّاهِرُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ أَنَّ الْخَلْقَ ابْتُدِئَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَخُلِقَ آدَمُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ الْأَشْيَاءِ، فَهَذَا يَسْتَقِيمُ مَعَ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ؛ وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْخَلْقَ ابْتُدِئَ يَوْمَ السَّبْتِ، فَهَذَا بِخِلَافِ الْآيَةِ؛ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ آدَمَ، ثُمَّ يَكُونُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ هُوَ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا بَيْنُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ آدَمَ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ فِيمَا بَيْنَهُمَا‏.‏

النَّوْعُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ‏:‏ فِي مَعْرِفَةِ الْمُحْكَمِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏)‏ قِيلَ‏:‏ وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ‏:‏ ‏{‏لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 44‏)‏ وَالْمُتَشَابِهُ لَا يُرْجَى بَيَانُهُ، وَالْمُحْكَمُ لَا تُوقَفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى الْبَيَانِ‏.‏

وَقَدْ حَكَى الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 1‏)‏‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 23‏)‏‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏- وَهُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّ مِنْهُ مُحْكَمًا وَمِنْهُ مُتَشَابِهًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏)‏‏.‏

فَأَمَّا الْمُحْكَمُ تَعْرِيفُهُ فَأَصْلُهُ لُغَةً‏:‏ الْمَنْعُ؛ تَقُولُ‏:‏ أَحْكَمْتُ بِمَعْنَى رَدَدْتُ وَمَنَعْتُ، وَالْحَاكِمُ لِمَنْعِهِ الظَّالِمُ مِنَ الظُّلْمِ، وَحَكَمَةُ اللِّجَامِ هِيَ الَّتِي تَمْنَعُ الْفَرَسَ مِنَ الِاضْطِرَابِ‏.‏

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ مَا أَحْكَمَهُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَبَيَانِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 43‏)‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ الَّذِي لَمْ يُنْسَخْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 151‏)‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 23‏)‏ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ‏.‏ وَهِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ حُكْمًا مَذْكُورَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ النَّاسِخُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْفَرَائِضُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الَّذِي وَعَدَ عَلَيْهِ ثَوَابًا أَوْ عِقَابًا، وَقِيلَ‏:‏ الَّذِي تَأْوِيلُهُ تَنْزِيلُهُ بِجَعْلِ الْقُلُوبِ تَعْرِفُهُ عِنْدَ سَمَاعِهِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏(‏الْإِخْلَاصِ‏:‏ 1‏)‏ وَ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 11‏)‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَا لَا يَحْتَمِلُ فِي التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَا تَكَرَّرَ لَفْظُهُ‏.‏

وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ؛ تَعْرِيفُهُ فَأَصْلُهُ أَنْ يَشْتَبِهَ اللَّفْظُ فِي الظَّاهِرِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ ثَمَرِ الْجَنَّةِ‏:‏ ‏{‏وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 25‏)‏؛ أَيْ مُتَّفِقَ الْمَنَاظِرِ، مُخْتَلِفَ الطُّعُومِ، وَيُقَالُ لِلْغَامِضِ‏:‏ مُتَشَابِهٌ، لِأَنَّ جِهَةَ الشَّبَهِ فِيهِ كَمَا تَقُولُ لِحُرُوفِ التَّهَجِّي‏.‏ وَالْمُتَشَابِهُ مِثْلُ الْمُشْكِلِ؛ لِأَنَّهُ أَشْكَلَ، أَيْ دَخَلَ فِي شَكْلِ غَيْرِهِ وَشَاكَلَهُ‏.‏

وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ‏:‏ هُوَ الْمُشْتَبَهُ الَّذِي يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ هُوَ الْمَنْسُوخُ الْغَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ الْقَصَصُ وَالْأَمْثَالُ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ مَا أُمِرْتَ أَنْ تُؤْمِنَ بِهِ وَتَكِلَ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ فَوَاتِحُ السُّوَرِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ مَا لَا يُدْرَى إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ إِلَيْهِ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 14‏)‏، وَ‏{‏عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 56‏)‏‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ الْآيَاتُ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا وَقْتَ السَّاعَةِ، وَمَجِيءَ الْغَيْثِ، وَانْقِطَاعَ الْآجَالِ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏ ‏(‏لُقْمَانَ‏:‏ 34‏)‏ وَقِيلَ‏:‏ مَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا، وَالْمُحْكَمُ مَا يَحْتَمِلُ وَجْهًا وَاحِدًا‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، إِلَّا بِرَدِّهِ إِلَى غَيْرِهِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبٌ‏.‏

وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَسَمَ الْحَقَّ بَيْنَ عِبَادِهِ، فَأَوْلَاهُمْ بِالصَّوَابِ مَنْ عَبَّرَ بِخِطَابِهِ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُرَادِ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 44‏)‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 19‏)‏ أَيْ عَلَى لِسَانِكَ وَأَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أُمَّتِكَ، وَكَلَامُ السَّلَفِ رَاجِعٌ إِلَى الْمُشْتَبَهِ بِوَجْهٍ لَا إِلَى الْمَقْصُودِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْمُتَشَابِهِ فِي خِطَابِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ إِذَا دَقَّتْ تَدَاخَلَتْ وَتَشَابَهَتْ عَلَى مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِهَا؛ كَالْأَشْجَارِ إِذَا تَقَارَبَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ تَدَاخَلَتْ أَمْثَالُهَا وَاشْتَبَهَتْ؛ أَيْ أُشْكِلَتْ عَلَى مَنْ لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ فِي الْبَحْثِ عَنْ مُنْبَعَثِ كُلِّ فَنٍّ مِنْهَا، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 141‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مُتَشَابِهًا‏)‏ وَهُوَ عَلَى اشْتِبَاكِهِ غَيْرُ مُتَشَابِهٍ‏.‏ وَكَذَلِكَ سِيَاقُ مَعَانِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ قَدْ تَتَقَارَبُ الْمَعَانِي وَيَتَقَدَّمُ الْخِطَابُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَيَتَأَخَّرُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ؛ لِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَرْتِيبِ الْخِطَابِ وَالْوُجُودِ، فَتَشْتَبِكُ الْمَعَانِي وَتُشْكِلُ إِلَّا عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، فَيُقَالُ فِي هَذَا الْفَنِّ مُتَشَابِهٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ‏.‏

وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ فَهُوَ يُشَابِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالْإِعْجَازِ وَالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَذَمَّ سُبْحَانَهُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ عَلَيْهِمُ افْتِتَانًا وَتَضْلِيلًا، فَهُمْ بِذَلِكَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ عَلَيْهِمْ تَنَاصُرًا وَتَعَاضُدًا لِلْفِتْنَةِ وَالْإِضْلَالِ‏.‏

تَفْرِيعَاتٌ

الْأَوَّلُ‏:‏ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَجِبُ رَدُّهَا عِنْدَ الْإِشْكَالِ إِلَى أُصُولِهَا‏.‏

فَيَجِبُ رَدُّ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ إِلَى مُحْكَمٍ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 11‏)‏‏.‏

وَرَدُّ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الْأَفْعَالِ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 149‏)‏ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْمُوهِمَةُ نِسْبَةَ الْأَفْعَالِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ، تُرَدُّ إِلَى مُحْكَمِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 125‏)‏ وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ تَنَزُّلِ الْخِطَابِ، أَوْ ضَرْبِ مِثَالٍ، أَوْ عِبَارَةٍ عَنْ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ مَعِيَّةٍ، أَوْ مَا يُوهِمُ التَّشْبِيهَ، فَمُحْكَمُ ذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 11‏)‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 60‏)‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏(‏الْإِخْلَاصِ‏:‏ 1‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ ضَرْبٌ فِي تَفْصِيلِ ذِكْرِ النُّبُوَّةِ وَوَصْفِ إِلْقَاءِ الْوَحْيِ، وَمُحْكَمُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏(‏الْحِجْرِ‏:‏ 9‏)‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى‏}‏ ‏(‏النَّجْمِ‏:‏ 3‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ ضَرْبٌ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ بِحَسْبِ فَهْمِهِمْ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ‏.‏

وَمِنْهُ شَيْءٌ يَتَقَارَبُ فِيهِ بَيْنَ اللَّمَّتَيْنِ‏:‏ لَمَّةُ الْمَلَكِ وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَمُحْكَمُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 90‏)‏ الْآيَةَ، وَلِهَذَا قَالَ عَقِبَهُ‏:‏ ‏{‏يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 90‏)‏ أَيْ عِنْدَمَا يَلْقَى الْعَدُوَّ الَّذِي لَا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ بَلْ بِالشَّرِّ وَالْإِلْبَاسِ‏.‏

وَمِنْهُ الْآيَاتُ الَّتِي اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ تَحْتَمِلُهَا الْآيَةُ، وَلَا يُقْطَعُ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا مُفَصَّلًا بِحَيْثُ يُقْطَعُ بِهِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ- أَعْنِي قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ الْآيَةَ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏)‏ مِنْ حَيْثُ تَرَدُّدُ الْوَقْفِ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى ‏(‏إِلَّا اللَّهُ‏)‏ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏)‏ وَتَرَدُّدُ الْوَاوِ فِي ‏(‏وَالرَّاسِخُونَ‏)‏ بَيْنَ الِاسْتِئْنَافِ وَالْعَطْفِ، وَمِنْ ثَمَّ ثَارَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ‏.‏

فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ أَنَّهَا لِلِاسْتِئْنَافِ، وَأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى ‏(‏إِلَّا اللَّهُ‏)‏ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَبَّدَ مِنْ كِتَابِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ- وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ- كَمَا تَعَبَّدَهُمْ مِنْ دِينِهِ بِمَا لَا يَعْقِلُونَ- وَهُوَ التَّعَبُّدَاتُ- وَلِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏}‏ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ كَوْنِهِ حَالًا فَضْلَةً، وَخَبَرًا عُمْدَةً، وَالثَّانِي أَوْلَى‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ أَنَّهَا لِلْعَطْفِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفِ الْخَلْقَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ؛ وَضَعَّفَ الْأَوَّلَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا لِيَنْتَفِعَ بِهِ عِبَادُهُ؛ وَيَدُلَّ بِهِ عَلَى مَعْنًى أَرَادَهُ، فَلَوْ كَانَ الْمُتَشَابِهُ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ اللَّهِ لَلَزِمَنَا، وَلَا يَسُوغُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ‏:‏ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمِ الْمُتَشَابِهَ؛ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَعْرِفَهُ الرَّسُولُ مَعَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏)‏ جَازَ أَنْ يَعْرِفَهُ الرَّبَّانِيُّونَ مِنْ صَحَابَتِهِ، وَالْمُفَسِّرُونَ مَنْ أُمَّتِهِ‏.‏ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ‏:‏ أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَيَقُولُ عِنْدَ قِرَاءَةِ قَوْلِهِ فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ‏:‏ ‏{‏مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 22‏)‏ أَنَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ‏.‏

وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏)‏ يَعْلَمُونَهُ وَ‏{‏يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏)‏ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ حَظٌّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا‏:‏ ‏(‏آمَنَّا‏)‏ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فَضْلٌ عَلَى الْجَاهِلِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ قَائِلُونَ ذَلِكَ، وَنَحْنُ لَمْ نَرَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ تَوَقَّفُوا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالُوا هُوَ مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، بَلْ أَمَرُّوهُ عَلَى التَّفْسِيرِ، حَتَّى فَسَّرُوا الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ كَيْفَ يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَعْلَمَ الرَّاسِخُونَ، وَاللَّهُ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏)‏ وَإِذَا أَشْرَكَهُمْ فِي الْعِلْمِ انْقَطَعُوا عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏يَقُولُونَ‏)‏ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا عَطْفٌ حَتَّى يُوجِبَ لِلرَّاسِخِينَ فِعْلَيْنِ‏؟‏‏.‏

قُلْنَا‏:‏ إِنَّ ‏(‏يَقُولُونَ‏)‏ هُنَا فِي مَعْنَى الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ قَائِلِينَ آمَنَّا؛ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهَا *** وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي غَمَامَهْ

أَيْ لَامِعًا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمَعْنَى ‏(‏يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ‏)‏ فَحَذَفَ وَاوَ الْعَطْفِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 22‏)‏ وَالْمَعْنَى؛ يَقُولُونَ‏:‏ عَلِمْنَا وَآمَنَّا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ الْعِلْمِ مُحَالٌ؛ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِيمَانُ مَعَ الْجَهْلِ، وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَعْلَمُوهَا لَمْ يَكُونُوا مِنَ الرَّاسِخِينَ، وَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجُهَّالِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ وَمِنْ هَذَا الْخِلَافِ نَشَأَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ‏:‏ هَلْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَا تَعْلَمُ الْأُمَّةُ تَأْوِيلَهُ‏؟‏ قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ‏:‏ وَذَهَبَ عَامَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ كُلَّ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَإِلَّا لَأَدَّى إِلَى إِبْطَالِ فَائِدَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَحَمَلُوا قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏وَالرَّاسِخُونَ‏)‏ بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِلَّا اللَّهُ‏)‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏يَقُولُونَ‏)‏ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ‏.‏

قَالَ‏:‏ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ بَعْضُ مَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ‏:‏ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَوَجْهٍ لَا يَسَعُ أَحَدًا جَهَالَتُهُ، وَوَجْهٍ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، وَوَجْهٌ تَأْوِيلٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الْمُتَشَابِهُ اسْمٌ لِمَعْنَيَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ لِمَا الْتَبَسَ مِنَ الْمَعْنَى لِدُخُولِ شَبَهِهِ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ نَحْوُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 70‏)‏ الْآيَةَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ اسْمٌ لِمَا يُوَافِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُصَدِّقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 23‏)‏ الْآيَةَ‏.‏

فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ الْأَوَّلَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمُ الْوُصُولُ إِلَى مُرَادِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُطْلِعَهُمْ عَلَيْهِ بِنَوْعٍ مِنْ لُطْفِهِ؛ لِأَنَّهُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏.‏ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الثَّانِيَ، جَازَ أَنْ يَعْلَمُوا مُرَادَهُ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ قِيلَ‏:‏ مَا الْحِكْمَةُ فِي إِنْزَالِ الْمُتَشَابِهِ مِمَّنْ أَرَادَ لِعِبَادِهِ الْبَيَانَ وَالْهُدَى‏؟‏

قُلْنَا‏:‏ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُ عِلْمُهُ فَلَهُ فَوَائِدُ؛ مِنْهَا‏:‏ لِيَحُثَّ الْعُلَمَاءَ عَلَى النَّظَرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ بِغَوَامِضِهِ، وَالْبَحْثِ عَنْ دَقَائِقِ مَعَانِيهِ، فَإِنَّ اسْتِدْعَاءَ الْهِمَمِ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ، وَحَذَرًا مِمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ‏:‏ ‏{‏إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 22‏)‏، وَلِيَمْتَحِنَهُمْ وَيُثِيبَهُمْ كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 27‏)‏ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 4‏)‏ فَنَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّ أَعْلَى الْمَنَازِلِ هُوَ الثَّوَابُ، فَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ لَسَقَطَتِ الْمِحْنَةُ، وَبَطَلَ التَّفَاضُلُ، وَاسْتَوَتْ مَنَازِلُ الْخَلْقِ، وَلَمْ يَفْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ، بَلْ جَعَلَ بَعْضَهُ مُحْكَمًا لِيَكُونَ أَصْلًا لِلرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهًا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِخْرَاجِ وَرَدِّهِ إِلَى الْمُحْكَمِ، لِيُسْتَحَقَّ بِذَلِكَ الثَّوَابُ الَّذِي هُوَ الْغَرَضُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 142‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ إِظْهَارُ فَضْلِ الْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ، وَيَسْتَدْعِيهِ عِلْمُهُ إِلَى الْمَزِيدِ فِي الطَّلَبِ فِي تَحْصِيلِهِ، لِيَحْصُلَ لَهُ دَرَجَةُ الْفَضْلِ، وَالْأَنْفُسُ الشَّرِيفَةُ تَتَشَوَّفُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَتَحْصِيلِهِ‏.‏

وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ فَلَهُ فَوَائِدُ؛ مِنْهَا‏:‏ إِنْزَالُهُ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا بِالْوَقْفِ فِيهِ وَالتَّعَبُّدِ بِالِاشْتِغَالِ مِنْ جِهَةِ التِّلَاوَةِ وَقَضَاءِ فَرْضِهَا، وَإِنْ لَمْ يَقِفُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمُرَادِ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، اعْتِبَارًا بِتِلَاوَةِ الْمَنْسُوخِ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمُحْكَمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمْتَحِنَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهَا إِنْ لَمْ يَقِفُوا عَلَى حَقِيقَةِ الْمُرَادِ، فَيَكُونَ فِي هَذَا نَوْعُ امْتِحَانٍ، وَفِي ذَلِكَ هَدْمٌ لِمَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ، حَيْثُ ادَّعَوْا وُجُوبَ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ بِهَا عَلَيْهِمْ؛ وَذَلِكَ إِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ وَلُغَتِهِمْ، ثُمَّ عَجَزُوا عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى مَا فِيهَا مَعَ بَلَاغَتِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ؛ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَعْجَزَهُمْ عَنِ الْوُقُوفِ هُوَ الَّذِي أَعْجَزَهُمْ عَنْ تَكَرُّرِ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ أَثَارَ بَعْضُهُمْ سُؤَالًا وَهُوَ‏:‏ هَلْ لِلْمُحْكَمِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْمُتَشَابِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ هُمَا سَوَاءٌ‏؟‏ وَالثَّانِي خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَالْأَوَّلُ يَنْقُضُ أَصْلَكُمْ أَنَّ جَمِيعَ كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ سَوَاءٌ وَأَنَّهُ نُزِّلَ بِالْحِكْمَةِ‏.‏

وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَكْرَابَاذِيُّ بِأَنَّ الْمُحْكَمَ كَالْمُتَشَابِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَيُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ، فَيَتَّفِقَانِ فِي أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِمَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ حِكْمَةِ الْوَاضِعِ، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ الْقَبِيحَ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ الْمُحْكَمَ بِوَضْعِ اللُّغَةِ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْوَجْهَ الْوَاحِدَ، فَمَنْ سَمِعَهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ فِي الْحَالِ، وَالْمُتَشَابِهَ يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ مُبْتَدَأٍ وَنَظَرٍ مُجَدِّدٍ عِنْدَ سَمَاعِهِ لِيَحْمِلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْكَمَ آصَلُ، وَالْعِلْمُ بِالْأَصْلِ أَسْبَقُ، وَلِأَنَّ الْمُحْكَمَ يُعْلَمُ مُفَصَّلًا، وَالْمُتَشَابِهَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مُجْمَلًا‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ إِذَا كَانَ الْمُحْكَمُ بِالْوَضْعِ كَالْمُتَشَابِهِ، وَقَدْ قُلْتُمْ إِنَّ مِنْ حَقِّ هَذِهِ اللُّغَةِ أَنْ يَصِحَّ فِيهَا الِاحْتِمَالُ وَيَسُوغَ التَّأْوِيلُ، فَبِمَا يُمَيَّزُ الْمُحْكَمُ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَزِيَّةٍ، سِيَّمَا وَالنَّاسُ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَذَاهِبِ، فَالْمُحْكَمُ عِنْدَ السُّنِّيِّ مُتَشَابِهٌ عِنْدَ الْقَدَرِيِّ‏؟‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي أَوْرَدْتَهُ يُلْجِئُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْعُقُولِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْرِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ خِطَابِهِ يَفْتَقِرُ إِلَى الْعِلْمِ بِحِكْمَتِهِ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ مَعْرِفَتِهِ لِيَصِحَّ لَهُ مَخْرَجُ كَلَامِهِ، فَأَمَّا فِي الْكَلَامِ فِيمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَزِيَّةٍ لِلْمُحْكَمِ، وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ ظَاهِرُهُ عَلَى الْمُرَادِ أَوْ يَقْتَضِيَ بِالضَّمَانَةِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَ الْوَاحِدَ‏.‏

وَلِلْمُحْكَمِ فِي بَابِ الْحِجَاجِ عِنْدَ غَيْرِ الْمُخَالِفِ مَزِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ، وَأَنَّ ظَاهِرَ الْمُحْكَمِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَإِنْ تَمَسَّكَ بِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، وَعَدَلَ عَنْ مُحْكَمِهِ، لَمَّا أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِالشُّبَهِ الْعَقْلِيَّةِ وَعَدَلَ عَنِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَذَلِكَ لُطْفٌ وَبَعْثٌ عَلَى النَّظَرِ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ الْمُتَدَيِّنَ يُؤْثِرُ ذَلِكَ لِيَتَفَكَّرَ فِيهِ وَيَعْمَلَ، فَإِنَّ اللُّغَةَ وَإِنْ تَوَقَّفَتْ مُحْتَمِلَةٌ، فَفِيهَا مَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ جَازَ صَرْفُهُ إِلَى غَيْرِهِ بِالدَّلِيلِ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ، فَفِيهِ مَا يُكْرَهُ صَرْفُهُ لِاسْتِبْعَادِهِ فِي اللُّغَةِ‏.‏

النَّوْعُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ‏:‏ فِي حُكْمِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ

وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْوَارِدِ مِنْهَا فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا؛ بَلْ تُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا تُؤَوِّلُ شَيْئًا مِنْهَا، وَهُمُ الْمُشَبِّهَةُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ لَهَا تَأْوِيلًا، وَلَكِنَّا نُمْسِكُ عَنْهُ، مَعَ تَنْزِيهِ اعْتِقَادِنَا عَنِ الشَّبَهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَنَقُولُ‏:‏ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ؛ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ، وَأَوَّلُوهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ‏.‏

وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَالْأَخِيرَانِ مَنْقُولَانِ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَنُقِلَ الْإِمْسَاكُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، فَقَالَتْ‏:‏ الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ‏.‏ وَكَذَلِكَ سُئِلَ عَنْهُ مَالِكٌ فَأَجَابَ بِمَا قَالَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ، إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِيهَا‏:‏ أَنَّ مَنْ عَادَ إِلَى هَذَا السُّؤَالِ عَنْهُ أَضْرِبُ عُنُقَهُ‏.‏ وَكَذَلِكَ سُئِلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَقَالَ‏:‏ أَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 5‏)‏ مَا أَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 11‏)‏ وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ كَمَا قَالَ‏:‏ وَإِنِّي لَأَرَاكَ ضَالًّا‏.‏ وَسُئِلَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، أَقَائِمٌ هُوَ أَمْ قَاعِدٌ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا يَمَلُّ عَنِ الْقِيَامِ حَتَّى يَقْعُدَ، وَلَا يَمَلُّ عَنِ الْقُعُودِ حَتَّى يَقُومَ، وَأَنْتَ إِلَى غَيْرِ هَذَا السُّؤَالِ أَحْوَجُ‏.‏

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَضَى صَدْرُ الْأُمَّةِ وَسَادَتُهَا، وَإِيَّاهَا اخْتَارَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَادَتُهَا، وَإِلَيْهَا دَعَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَأَعْلَامُهُ، وَلَا أَحَدَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَصْدِفُ عَنْهَا وَيَأْبَاهَا‏.‏

وَأَفْصَحَ الْغَزَالِيُّ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِنَهْجَيْنِ مَا سِوَاهَا حَتَّى أَلْجَمَ آخِرًا فِي ‏(‏إِلْجَامِهِ‏)‏ كُلَّ عَالِمٍ أَوْ عَامِّيٍّ عَمَّا عَدَاهَا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَهُوَ كِتَابُ ‏(‏إِلْجَامُ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ‏)‏ وَهُوَ آخِرُ تَصَانِيفِ الْغَزَالِيِّ مُطْلَقًا، أَوْ آخِرُ تَصَانِيفِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، حَثَّ فِيهِ عَلَى مَذَاهِبِ السَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ‏.‏

وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ التَّأْوِيلُ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ‏.‏

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ ‏(‏التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ‏)‏‏:‏ إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ أَوَّلَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى تَأْوِيلَ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 158‏)‏ قَالَ‏:‏ وَهَلْ هُوَ إِلَّا أَمْرُهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 33‏)‏‏.‏

وَاخْتَارَ ابْنُ بَرْهَانَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ التَّأْوِيلَ، قَالَ‏:‏ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ‏:‏ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ‏؟‏ فَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ، فَلِهَذَا مَنَعُوا التَّأْوِيلَ، وَاعْتَقَدُوا التَّنْزِيهَ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ‏.‏

وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، بَلِ الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَهُ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى التَّأْوِيلِ وُجُوبُ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ الْمَفْهُومِ مِنْ حَقِيقَتِهِ لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْمُتَشَابِهِ وَالْجِسْمِيَّةِ فِي حَقِّ الْبَارِئِ تَعَالَى، وَالْخَوْضُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ خَطَرُهُ عَظِيمٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ تَغَايُرٌ فِي الْأُصُولِ، بَلِ التَّغَايُرُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ، وَاسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا‏:‏ لَا تَغَايُرَ بَيْنِهِمَا فِي الْأُصُولِ لِمَا عُلِمَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُكَذِّبُ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، إِذْ لَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِمَا لَا يَفْهَمُهُ الْعَقْلُ، إِذْ هُوَ دَلِيلُ الشَّرْعِ وَكَوْنُهُ حَقًّا، وَلَوْ تُصُوِّرَ كَذِبُ الْعَقْلِ فِي شَيْءٍ لَتُصُوِّرَ كَذِبُهُ فِي صِدْقِ الشَّرْعِ، فَمَنْ طَالَتْ مُمَارَسَتُهُ الْعُلُومَ، وَكَثُرَ خَوْضُهُ فِي بُحُورِهَا أَمْكَنَهُ التَّلْفِيقُ بَيْنَهُمَا، لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا تَأْوِيلٌ يَبْعُدُ عَنِ الْأَفْهَامِ، أَوْ مَوْضِعٌ لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ وَجْهُ التَّأْوِيلِ لِقُصُورِ الْأَفْهَامِ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ، وَالطَّمَعُ فِي تَلْفِيقِ كُلِّ مَا يَرِدُ مُسْتَحِيلُ الْمَرَامِ، وَالْمَرَدُّ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 11‏)‏‏.‏

وَنَحْنُ نَجْرِي فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى طَرِيقِ الْمُؤَوِّلِينَ، حَاكِينَ كَلَامَهُمْ‏.‏

فَمِنْ ذَلِكَ صِفَةُ الِاسْتِوَاءِ، فَحَكَى مُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْتَوَى ‏(‏طه‏:‏ 5‏)‏ بِمَعْنَى اسْتَقَرَّ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، فَإِنَّ الِاسْتِقْرَارَ يُشْعِرُ بِالتَّجْسِيمِ‏.‏

وَعَنِ الْمُعْتَزِلَةِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَقَهَرَ وَغَلَبَ، وَرُدَّ بِوَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَوْلٍ عَلَى الْكَوْنَيْنِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَهْلِهِمَا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَخْصِيصِ الْعَرْشِ‏!‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ؛ قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ‏.‏

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ‏:‏ بِمَعْنَى ‏(‏صَعِدَ‏)‏، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُوجِبُ هُبُوطًا مِنْهُ تَعَالَى حَتَّى يَصْعَدَ، وَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنِ اللَّهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ‏(‏الرَّحْمَنُ عَلَا وَالْعَرْشُ لَهُ اسْتَوَى‏)‏ فَجَعَلَ ‏(‏عَلَا‏)‏ فِعْلًا لَا حَرْفًا؛ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ؛ وَرُدَّ بِوَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ جَعَلَ الصِّفَةَ فِعْلًا وَهُوَ عَلَى، وَمَصَاحِفُ أَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ قَاطِعَةٌ بِأَنَّ ‏(‏عَلَى‏)‏ هُنَا حَرْفٌ، وَلَوْ كَانَ فِعْلًا لَكَتَبُوهَا بِاللَّامِ أَلِفٍ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 91‏)‏‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ رَفَعَ الْعَرْشَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ‏}‏، ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 5، 6‏)‏ وَهَذَا رَكِيكٌ يُزِيلُ الْآيَةَ عَنْ نَظْمِهَا وَمُرَادِهَا‏.‏

قَالَ الْأُسْتَاذُ‏:‏ وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعَانِي‏:‏ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏اسْتَوَى‏)‏ أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ وَعَمَدَ إِلَى خَلْقِهِ، فَسَمَّاهُ اسْتِوَاءً، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 11‏)‏ أَيْ قَصَدَ وَعَمَدَ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ فَكَذَا هَاهُنَا، قَالَ‏:‏ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرَضِيٌّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ فِيهِ تَعْطِيلٌ وَلَا تَشْبِيهٌ‏.‏

قَالَ الْأَشْعَرِيُّ‏:‏ ‏(‏عَلَى‏)‏ هُنَا بِمَعْنَى ‏(‏فِي‏)‏ كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 102‏)‏ وَمَعْنَاهُ أَحْدَثَ اللَّهُ فِي الْعَرْشِ فِعْلًا سَمَّاهُ اسْتِوَاءً، كَمَا فَعَلَ فِعْلًا سَمَّاهُ فَضْلًا وَنِعْمَةً، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً‏}‏ ‏(‏الْحُجُرَاتِ‏:‏ 7 وَ 8‏)‏ فَسَمَّى التَّحْبِيبَ وَالتَّكْرِيهَ فَضْلًا وَنِعْمَةً‏.‏ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 26‏)‏ أَيْ فَخَرَّبَ اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا‏}‏ ‏(‏الْحَشْرِ‏:‏ 2‏)‏ أَيْ قَصَدَهُمْ وَكَمَا أَنَّ التَّخْرِيبَ وَالتَّعْذِيبَ سَمَّاهَا إِتْيَانًا، فَكَذَلِكَ أَحْدَثَ فِعْلًا بِالْعَرْشِ سَمَّاهُ اسْتِوَاءً‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهَذَا قَوْلٌ مَرْضِيٌّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِسَلَامَتِهِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَلِلْعَرْشِ خُصُوصِيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَعْظَمُ، وَالْمَلَائِكَةُ حَافُّونَ بِهِ، وَدَرَجَةُ الْوَسِيلَةِ مُتَّصِلَةٌ بِهِ، وَأَنَّهُ سَقْفُ الْجَنَّةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 116‏)‏ قِيلَ‏:‏ النَّفْسُ هَاهُنَا الْغَيْثُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالنَّفْسِ، لِأَنَّهُ مُسْتَتِرٌ كَالنَّفْسِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 28‏)‏؛ أَيْ عُقُوبَتَهُ، وَقِيلَ‏:‏ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ‏.‏

قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 3‏)‏ اخْتَارَ الْبَيْهَقِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الْمَعْبُودُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 84‏)‏ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي ‏(‏الْمُوجَزِ‏)‏‏:‏ ‏{‏وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 3‏)‏ أَيْ عَالِمٌ بِمَا فِيهِمَا، وَقِيلَ‏:‏ ‏(‏وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ‏)‏ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ، ‏(‏وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ‏)‏ كَلَامٌ آخَرُ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُجَسِّمَةِ، وَاسْتَدَلَّتِ الْجَهْمِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَظَاهِرُ مَا فَهِمُوهُ مِنَ الْآيَةِ مِنْ أَسْخَفِ الْأَقْوَالِ‏.‏

قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا‏}‏ ‏(‏الْفَجْرِ‏:‏ 22‏)‏ قِيلَ‏:‏ اسْتِعَارَةُ الْوَاوِ مَوْضِعَ الْبَاءِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، إِذِ الْبَاءُ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِلْصَاقِ وَهُوَ جَمْعٌ، وَالْوَاوُ مَوْضُوعَةٌ لِلْجَمْعِ، وَالْحُرُوفُ يَنُوبُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَتَقُولُ عُرْفًا‏:‏ جَاءَ الْأَمِيرُ بِالْجَيْشِ إِذَا كَانَ مَجِيئُهُمْ مُضَافًا إِلَيْهِ بِتَسْلِيطِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَلَكَ إِنَّمَا يَجِيءُ بِأَمْرِهِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 27‏)‏ فَصَارَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، وَقَالَ‏:‏ جَاءَ الْمَلَكُ بِأَمْرِ رَبِّكَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 24‏)‏ أَيِ اذْهَبْ أَنْتَ بِرَبِّكَ، أَيْ بِتَوْفِيقِ رَبِّكَ وَقُوَّتِهِ إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَاتِلُ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ صَرْفُ الْكَلَامِ إِلَى الْمَفْهُومِ فِي الْعُرْفِ‏.‏

قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏}‏ ‏(‏الْقَلَمِ‏:‏ 42‏)‏ قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ عَنْ شِدَّةٍ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ‏:‏ أَيْ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ

وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ يَحْتَاجُ إِلَى مُعَانَاةٍ وَجِدٍّ فِيهِ شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ، فَاسْتُعِيرَتِ السَّاقُ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ‏.‏

قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 56‏)‏ قَالَ اللُّغَوِيُّونَ‏:‏ مَعْنَاهُ مَا فَرَّطْتُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ، لِأَنَّ التَّفْرِيطَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي ذَلِكَ، وَالْجَنْبُ الْمَعْهُودُ مِنْ ذَوِي الْجَوَارِحِ لَا يَقَعُ فِيهِ تَفْرِيطٌ أَلْبَتَّةَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُ الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ بِمَا لَا يَجُوزُ‏!‏

قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 31‏)‏ فَرَغَ يَأْتِي بِمَعْنَى قَطَعَ شُغْلًا، أَتَفَرَّغُ لَكَ، أَيْ أَقْصِدُ قَصْدَكَ، وَالْآيَةُ مِنْهُ، أَيْ سَنَقْصِدُ لِعُقُوبَتِكُمْ وَنُحْكِمُ جَزَاءَكُمْ‏.‏

قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 37‏)‏ إِنْ قِيلَ‏:‏ لِأَيِّ عِلَّةٍ نُسِبَ الظَّنُّ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ شَكٌّ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ فِيهِ جَوَابَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ لِفِرْعَوْنَ، وَهُوَ شَكٌّ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 37‏)‏ وَإِنِّي لَأَظُنُّ مُوسَى كَاذِبًا، فَالظَّنُّ عَلَى هَذَا لِفِرْعَوْنَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 37‏)‏ عَلَى مَعْنَى‏:‏ وَإِنِّي لَأَعْلَمُهُ كَاذِبًا، فَإِذَا كَانَ الظَّنُّ لِلَّهِ كَانَ عِلْمًا وَيَقِينًا، وَلَمْ يَكُنْ شَكًّا كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ‏}‏ ‏(‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 20‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 255‏)‏ لَمْ يُرِدْ سُبْحَانَهُ بِنَفْيِ النَّوْمِ وَالسِّنَةِ عَنْ نَفْسِهِ إِثْبَاتَ الْيَقَظَةِ وَالْحَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلَّهِ تَعَالَى‏:‏ يَقْظَانُ وَلَا نَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْيَقْظَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ نَوْمٍ وَلَا يَجُوزُ وَصْفُ الْقَدِيمِ بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ نَفْيَ الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ مَا أَنَا عَنْكَ بِغَافِلٍ‏.‏

قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 75‏)‏، قَالَ السُّهَيْلِيُّ‏:‏ الْيَدُ فِي الْأَصْلِ كَالْمَصْدَرِ، عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ لِمَوْصُوفٍ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْأَيْدِي مَقْرُونَةً مَعَ الْأَبْصَارِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 45‏)‏ وَلَمْ يَمْدَحْهُمْ بِالْجَوَارِحِ؛ لِأَنَّ الْمَدْحَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ لَا بِالْجَوَاهِرِ، قَالَ‏:‏ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَصَحَّ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ‏:‏ إِنَّ الْيَدَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ‏(‏ص‏:‏ 75‏)‏ صِفَةٌ وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهَا فِي مَعْنَى الْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا بِمَعْنَى النِّعْمَةِ، وَلَا قَطَعَ بِشَيْءٍ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ تَحَرُّزًا مِنْهُ عَنْ مُخَالَفَةِ السَّلَفِ، وَقَطَعَ بِأَنَّهَا صِفَةٌ تَحَرُّزًا عَنْ مَذَاهِبِ الْمُشَبِّهَةِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ وَكَيْفَ خُوطِبُوا بِمَا لَا يَعْلَمُونَ إِذِ الْيَدُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ لَا يَعْرِفُونَهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ مَعْنَاهَا، وَلَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ تَوَهُّمَ التَّشْبِيهِ، وَلَا احْتَاجَ إِلَى شَرْحٍ وَتَنْبِيهٍ، وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ، لَوْ كَانَ لَا يُعْقَلُ عِنْدَهُمْ إِلَّا فِي الْجَارِحَةِ لَتَعَلَّقُوا بِهَا فِي دَعْوَى التَّنَاقُضِ، وَاحْتَجُّوا بِهَا عَلَى الرَّسُولِ، وَلَقَالُوا‏:‏ زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، ثُمَّ تُخْبِرُ أَنَّ لَهُ يَدًا، وَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ مُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ، عُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ كَانَ جَلِيًّا لَا خَفَاءَ بِهِ، لِأَنَّهَا صِفَةٌ سُمِّيَتِ الْجَارِحَةُ بِهَا مَجَازًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّ الْمَجَازُ فِيهَا حَتَّى نُسِيَتِ الْحَقِيقَةُ، وَرُبَّ مُجَازٍ كَثِيرٍ اسْتُعْمِلَ حَتَّى نُسِيَ أَصْلُهُ، وَتُرِكَتْ صِفَتُهُ- وَالَّذِي يَلُوحُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنْ مَعْنَى الْقُدْرَةِ إِلَّا أَنَّهَا أَخَصُّ، وَالْقُدْرَةُ أَعَمُّ، كَالْمَحَبَّةِ مَعَ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ، فَالْيَدُ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَى الْقُدْرَةِ، وَلِذَا كَانَ فِيهَا تَشْرِيفٌ لَازِمٌ‏.‏

وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ‏(‏ص‏:‏ 75‏)‏ فِي تَحْقِيقِ اللَّهِ التَّثْنِيَةَ فِي الْيَدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، وَإِنَّمَا هُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ‏.‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ الْيَدُ هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّأْكِيدِ وَالصِّلَةِ مَجَازٌ ‏(‏لِمَا خَلَقْتُ‏)‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 27‏)‏ قَالَ الْبَغَوِيُّ‏:‏ وَهَذَا تَأْوِيلٌ غَيْرُ قَوِيٍّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صِلَةً لَكَانَ لِإِبْلِيسَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ إِنْ كُنْتَ خَلَقْتَهُ فَقَدْ خَلَقْتَنِي، وَكَذَلِكَ فِي الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ لَا يَكُونُ لِآدَمَ فِي الْخَلْقِ مَزِيَّةٌ عَلَى إِبْلِيسَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 71‏)‏ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الِاثْنَيْنِ جَمْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 19‏)‏‏.‏

وَأَمَّا الْعَيْنُ فِي الْأَصْلِ فَهِيَ صِفَةٌ وَمَصْدَرٌ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ ثُمَّ عُبِّرَ عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ بِالْعَيْنِ، قَالَ‏:‏ وَحِينَئِذٍ فَإِضَافَتُهَا لِلْبَارِئِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 39‏)‏ حَقِيقَةٌ- لَا مَجَازٌ كَمَا تَوَهَّمَ أَكْثَرُ النَّاسِ- لِأَنَّهُ صِفَةٌ فِي مَعْنَى الرُّؤْيَةِ وَالْإِدْرَاكِ، وَإِنَّمَا الْمَجَازُ فِي تَسْمِيَةِ الْعُضْوِ بِهَا، وَكُلُّ شَيْءٍ يُوهِمُ الْكُفْرَ وَالتَّجْسِيمَ فَلَا يُضَافُ إِلَى الْبَارِئِ سُبْحَانَهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا‏.‏

قَالَ السُّهَيْلِيُّ‏:‏ وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُسْأَلَ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 39‏)‏ بِحَرْفِ ‏(‏عَلَى‏)‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 14‏)‏، ‏{‏وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 37‏)‏ وَمَا الْفَرْقُ‏؟‏ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى وَرَدَتْ فِي إِظْهَارِ أَمْرٍ كَانَ خَفِيًّا وَإِبْدَاءِ مَا كَانَ مَكْنُونًا، فَإِنَّ الْأَطْفَالَ إِذْ ذَاكَ كَانُوا يُغَذَّوْنَ وَيُصْنَعُونَ سِرًّا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصْنَعَ مُوسَى وَيُغَذَّى وَيُرَبَّى عَلَى جَلِيِّ أَمْنٍ وَظُهُورِ أَمْرٍ لَا تَحْتَ خَوْفٍ وَاسْتِسْرَارٍ دَخَلَتْ ‏(‏عَلَى‏)‏ فِي اللَّفْظِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهَا تُعْطِي مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ، وَالِاسْتِعْلَاءُ ظُهُورٌ وَإِبْدَاءٌ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ‏:‏ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنَيْ أَمْنٍ لَا تَحْتَ خَوْفٍ، وَذَكَرَ الْعَيْنَ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الرِّعَايَةِ وَالْكَلَأِ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 14‏)‏، ‏{‏وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 37‏)‏، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ فِي رِعَايَةٍ مِنَّا وَحِفْظٍ، وَلَا يُرِيدُ إِبْدَاءَ شَيْءٍ وَلَا إِظْهَارَهُ بَعْدَ كَتْمٍ، فَلَمْ يَحْتَجِ الْكَلَامُ إِلَّا مَعْنَى ‏(‏عَلَى‏)‏‏.‏

وَلَمْ يَتَكَلَّمِ السُّهَيْلِيُّ عَلَى حِكْمَةِ الْإِفْرَادِ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْجَمْعِ فِي الْبَاقِي، وَهُوَ سِرٌّ لَطِيفٌ، وَهُوَ إِظْهَارُ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي خُصَّ بِهِ مُوسَى فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 41‏)‏ فَاقْتَضَى الِاخْتِصَاصُ الِاخْتِصَاصَ الْآخَرَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 39‏)‏ بِخِلَافِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 14‏)‏، ‏{‏وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 37‏)‏ فَلَيْسَ فِيهِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ مَا فِي صُنْعِ مُوسَى عَلَى عَيْنِهِ سُبْحَانَهُ‏.‏

قَالَ السُّهَيْلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ وَأَمَّا النَّفْسُ فَعِبَارَةٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْوُجُودِ دُونَ مَعْنًى زَائِدٍ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ مِنْ لَفْظِهَا النَّفَاسَةُ وَالشَّيْءُ النَّفِيسُ، فَصَلُحَتْ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَجَازِيَّةِ‏.‏

وَأَمَّا الذَّاتُ فَقَدِ اسْتَوَى أَكْثَرُ النَّاسِ بِأَنَّهَا مَعْنَى النَّفْسِ وَالْحَقِيقَةِ، وَيَقُولُونَ‏:‏ ذَاتُ الْبَارِئِ هِيَ نَفْسُهُ، وَيُعَبِّرُونَ بِهَا عَنْ وُجُودِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ ثَلَاثُ كِذْبَاتٍ كُلُّهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَيْسَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ إِذَا اسْتَقْرَيْتَهَا فِي اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ كَمَا زَعَمُوا، وَإِلَّا لَقِيلَ‏:‏ عَبَدْتُ ذَاتَ اللَّهِ، وَاحْذَرْ ذَاتَ اللَّهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ، وَلَا يُقَالُ إِلَّا بِحَرْفٍ فِي الْمُسْتَحِلِّ مَعْنَاهُ فِي حَقِّ الْبَارِئِ تَعَالَى، لَكِنْ حَيْثُ وَقَعَ فَالْمُرَادُ بِهِ الدِّيَانَةُ وَالشَّرِيعَةُ الَّتِي هِيَ ذَاتُ اللَّهِ، فَذَاتٌ وَصْفٌ لِلدِّيَانَةِ‏.‏ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ بَانَ غَلَطُ مَنْ جَعَلَهَا عِبَارَةً عَنْ نَفْسِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ‏.‏

وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْعَجَبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏بَلْ عَجِبْتُ‏)‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 12‏)‏ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ قَدْ حَلُّوا مَحَلَّ مَنْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُمْ‏.‏

قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ‏:‏ الْعَجَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنْكَارُ الشَّيْءِ وَتَعْظِيمُهُ، وَهُوَ لُغَةُ الْعَرَبِ وَفِي الْحَدِيثِ‏:‏ عَجَبُ رَبِّكُمْ مِنْ إِلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ ، وَقَوْلُهُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يَعْجَبُ مِنَ الشَّابِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ صَبْوَةٌ‏.‏

قَالَ الْبَغَوِيُّ‏:‏ وَسَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ النَّيْسَابُورِيَّ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيَّ، يَقُولُ‏:‏ سُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَافَقَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 5‏)‏ أَيْ هُوَ كَمَا يَقُولُهُ‏.‏

فَائِدَةٌ

كُلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏)‏ أَوْ ‏(‏تَتَّقُونَ‏)‏ أَوْ ‏(‏تَشْكُرُونَ‏)‏ فَالْمُعْتَزِلَةُ يُفَسِّرُونَهُ بِالْإِرَادَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ، وَوُقُوعُ الشَّرِّ عَلَى خِلَافِ إِرَادَتِهِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُفَسِّرُونَهُ بِالطَّلَبِ لِمَا فِي التَّرَجِّي مِنْ مَعْنَى الطَّلَبِ، وَالطَّلَبُ غَيْرُ الْإِرَادَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ كُونُوا مُتَّقِينَ أَوْ مُفْلِحِينَ؛ إِذْ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ شَيْءٍ فِي الْوُجُودِ عَلَى خِلَافِ إِرَادَتِهِ تَعَالَى، بَلْ كُلُّ الْكَائِنَاتِ مَخْلُوقَةٌ لَهُ تَعَالَى وَوُقُوعُهَا بِإِرَادَتِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏.‏

النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ‏:‏ مَعْرِفَةُ إِعْجَازِهِ الْقُرْآنُ

وَقَدِ اعْتَنَى بِذَلِكَ الْأَئِمَّةُ، وَأَفْرَدُوهُ بِالتَّصْنِيفِ؛ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ‏:‏ وَلَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ، وَكِتَابُ الْخَطَّابِيِّ، وَالرُّمَّانِيِّ، وَالْبُرْهَانُ لِعَزِيزِيِّ وَغَيْرُهُمْ‏.‏

وَهُوَ عِلْمٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ، عَظِيمُ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَتُهَا الْبَاقِيَةُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يُوجِبُ الِاهْتِمَامَ بِمَعْرِفَةِ الْإِعْجَازِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 1‏)‏، وَقَالَ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 6‏)‏ فَلَوْلَا أَنَّ سَمَاعَهُ إِيَّاهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَمْ يَقِفْ أَمْرُهُ عَلَى سَمَاعِهِ، وَلَا تَكُونُ حُجَّةً إِلَّا وَهِيَ مُعْجِزَةٌ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 50 وَ51‏)‏ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْكِتَابَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ، وَأَنَّهُ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ، قَائِمٌ مَقَامَ مُعْجِزَاتِ غَيْرِهِ وَآيَاتِ سِوَاهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ‏.‏

وَلَمَّا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ- وَكَانُوا أَفْصَحَ الْفُصَحَاءِ وَمَصَاقِعَ الْخُطَبَاءِ- تَحَدَّاهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَأَمْهَلَهُمْ طُولَ السِّنِينَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا، يُقَالُ تَحَدَّى فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا دَعَاهُ إِلَى أَمْرٍ لِيُظْهِرَ عَجْزَهُ فِيهِ وَنَازَعَهُ الْغَلَبَةَ فِي قِتَالٍ أَوْ كَلَامِ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ ‏"‏ أَنَا حُدَيَّاكَ ‏"‏، أَيِ ابْرُزْ لِي وَحْدَكَ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّى الْعَرَبَ قَاطِبَةً بِالْقُرْآنِ حِينَ قَالُوا‏:‏ افْتَرَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 13‏)‏ فَلَمَّا عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ تُشَاكِلُ الْقُرْآنَ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 38‏)‏ ثُمَّ كَرَّرَ هَذَا فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 23‏)‏ أَيْ مِنْ كَلَامٍ مِثْلِهِ، وَقِيلَ‏:‏ مِنْ بِشَرٍ مِثْلِهِ، وَيُحَقِّقُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الْآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ؛ فَلَمَّا عَجَزُوا عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ تُشْبِهُ الْقُرْآنَ عَلَى كَثْرَةِ الْخُطَبَاءِ فِيهِمْ وَالْبُلَغَاءِ، قَالَ‏:‏ ‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 88‏)‏ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ لِعَجْزِهِمْ عَنْهُ، لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ لَفَعَلُوا، وَلَمَا عَدَلُوا إِلَى الْعِنَادِ تَارَةً وَالِاسْتِهْزَاءِ أُخْرَى، فَتَارَةً قَالُوا‏:‏ ‏(‏سِحْرٌ‏)‏، وَتَارَةً قَالُوا‏:‏ ‏(‏شِعْرٌ‏)‏، وَتَارَةً قَالُوا‏:‏ ‏(‏أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ‏)‏؛ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّحَيُّرِ وَالِانْقِطَاعِ‏.‏

قَالَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ مَكِّيٌّ فِي ‏(‏اخْتِصَارِهِ نَظْمَ الْقُرْآنِ لِلْجُرْجَانِيِّ‏)‏ قَالَ الْمُؤَلِّفَ‏:‏ أَنْزَلَهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ بِضُرُوبٍ مِنَ النَّظْمِ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى عَادَاتِ الْعَرَبِ، وَلَكِنِ الْأَعْصَارُ تَتَغَيَّرُ وَتَطُولُ، فَيَتَغَيَّرُ النَّظْمُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ لِقُصُورِ أَفْهَامِهِمْ، وَالنَّظَرُ كُلُّهُ جَارٍ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْزِلَهُ عَلَى نَظْمٍ لَيْسَ مِنْ لِسَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 38‏)‏، وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 39‏)‏ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوهُ لِجَهْلِهِمْ بِهِ؛ وَهُوَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ‏.‏

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ‏:‏ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَهْلُهُمْ إِلَّا مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ بِنَظْمٍ لَمْ يَعْرِفُوهُ؛ إِذْ لَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ حَجَّةً، وَجَهْلُنَا بِالنَّظْمِ لِتَأَخُّرِنَا عَنْ رُتَبِ الْقَوْمِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَائِزٌ، وَلَا يُمْنَعُ‏.‏ فَمَنْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ كَانَ يَفْهَمُهُ إِذَا تَدَبَّرَهُ لِأَنَّهُ بِلُغَتِهِ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَفْهَمُ بِالتَّعْلِيمِ، انْتَهَى‏.‏

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُشْكِلٌ، فَإِنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَفِظُوا الْبَقَرَةَ فِي مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْفَظُونَ مَعَ التَّفَهُّمِ‏.‏

وَإِعْجَازُ الْقُرْآنِ ذُكِرَ مِنْ وَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ إِعْجَازٌ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْسِهِ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ بِصَرْفِ النَّاسِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ‏.‏

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مُعْجِزٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْجَازِهِ، فَقِيلَ‏:‏ إِنَّ التَّحَدِّيَ وَقَعَ بِالْكَلَامِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الذَّاتِ، وَإِنَّ الْعَرَبَ كُلِّفَتْ فِي ذَلِكَ مَا لَا تُطِيقُ، وَفِيهِ وَقَعَ عَجْزُهَا‏.‏ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ بِالدَّالِّ عَلَى الْقَدِيمِ وَهُوَ الْأَلْفَاظُ‏.‏

فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّحَدِّي بِشَيْءٍ مَعَ جَهْلِ الْمُخَاطَبِ بِالْجِهَةِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا التَّحَدِّي، وَلَا يَتَّجِهُ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمِثْلِهِ‏:‏ إِنْ صَنَعْتَ خَاتَمًا كُنْتَ قَادِرًا عَلَى أَنْ تَصْنَعَ مِثْلَهُ؛ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَدَّعِي عَجْزَ الْمُخَاطَبِ عَنْهَا‏.‏

فَنَقُولُ‏:‏ الْإِعْجَازُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِمَّا أَنْ يَعْنِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاتِهِ، أَوْ إِلَى عَوَارِضِهِ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالتَّأْلِيفِ، أَوْ إِلَى مَدْلُولِهِ أَوْ إِلَى الْمَجْمُوعِ، أَوْ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْإِعْجَازُ حَصَلَ مِنْ جِهَةِ ذَوَاتِ الْكَلِمِ الْمُفْرَدَةِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ قَاطِبَةً كَانُوا يَأْتُونَ بِهَا؛ وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْإِعْجَازُ وَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَوَارِضِ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالتَّأَلُّفِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ يُحْوِجُ إِلَى مَا تَعَاطَاهُ مُسَيْلِمَةُ مِنَ الْحَمَاقَةِ‏:‏ ‏(‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجَوَاهِرْ‏.‏ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَهَاجِرْ‏.‏ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْكَافِرْ‏)‏‏.‏

وَلَوْ كَانَ الْإِعْجَازُ رَاجِعًا إِلَى الْإِعْرَابِ وَالتَّأْلِيفِ الْمُجَرَّدِ لَمْ يَعْجِزْ صَغِيرُهُمْ عَنْ تَأْلِيفِ أَلْفَاظٍ مُعْرَبَةٍ فَضْلًا عَنْ كَبِيرِهِمْ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعَانِي فَقَطْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صَنِيعِ الْبَشَرِ وَلَيْسَ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى إِظْهَارِهَا، مِنْ غَيْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَأَيْضًا لَقَالُوا‏:‏ لَقَدْ قُلْنَا مِثْلَهُ وَلَكِنْ لَمْ نَلْفِظْ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْمَجْمُوعِ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْإِعْجَازُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

‏[‏وُجُوهُ الْإِعْجَازِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ‏]‏

‏[‏الْوَجْهُ الْأَوَّلُ‏:‏ صَرْفُ الْعَرَبِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَسَلْبُ عُقُولِهِمْ‏]‏

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ‏:‏

إِحْدَاهَا‏:‏ وَهُوَ قَوْلُ النَّظَّامِ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ صَرَفَ الْعَرَبَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَسَلَبَ عُقُولَهُمْ، الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَكَانَ مَقْدُورًا لَهُمْ؛ لَكِنْ عَاقَهُمْ أَمْرٌ خَارِجِيٌّ، فَصَارَ كَسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ‏.‏

وَهُوَ قَوْلٌ فَاسِدٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 88‏)‏ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَجْزِهِمْ مَعَ بَقَاءِ قُدْرَتِهِمْ، وَلَوْ سُلِبُوا الْقُدْرَةَ لَمْ يَبْقَ فَائِدَةٌ لِاجْتِمَاعِهِمْ، لِمَنْزِلَتِهِ مَنْزِلَةَ اجْتِمَاعِ الْمَوْتَى، وَلَيْسَ عَجْزُ الْمَوْتَى بِكَبِيرٍ يُحْتَفَلُ بِذِكْرِهِ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى إِضَافَةِ الْإِعْجَازِ إِلَى الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُعْجِزًا غَيْرُهُ وَلَيْسَ فِيهِ صِفَةُ إِعْجَازٍ؛ بَلِ الْمُعْجِزُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، حَيْثُ سَلَبَهُمْ قُدْرَتَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ‏.‏

وَأَيْضًا يَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ بِالصَّرْفَةِ فَسَادٌ آخَرُ، وَهُوَ زَوَالُ الْإِعْجَازِ بِزَوَالِ زَمَانِ التَّحَدِّي؛ وَخُلُوُّ الْقُرْآنِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَفِي ذَلِكَ خَرْقٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى بَقَاءِ مُعْجِزَةِ الرَّسُولِ الْعُظْمَى، وَهَى الْقُرْآنُ وَلَا مُعْجِزَةَ لَهُ بَاقِيَةٌ سِوَى الْقُرْآنِ، وَخُلُوُّهُ مِنَ الْإِعْجَازِ يُبْطِلُ كَوْنَهُ مُعْجِزَةً‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ‏:‏ وَمِمَّا يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالصَّرْفَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ مُمْكِنَةً- وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهَا الصَّرْفَةُ- لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ مُعْجِزًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَنْعُ مُعْجِزًا فَلَا يَتَضَمَّنُ الْكَلَامَ فَضْلًا عَلَى غَيْرِهِ فِي نَفْسِهِ‏.‏

‏(‏وَلَيْسَ هَذَا بِأَعْجَبَ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْكُلَّ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ؛ وَإِنَّمَا تَأَخَّرُوا عَنْهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِوَجْهِ تَرْتِيبٍ، لَوْ تَعَلَّمُوهُ لَوَصَلُوا إِلَيْهِ، وَلَا بِأَعْجَبَ مِنْ قَوْلِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ‏:‏ إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَلَامِ الْبَشَرِ وَكَلَامِ اللَّهِ فِي هَذَا الْبَابِ‏)‏‏.‏ ‏(‏وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ ابْنَ الْمُقَفَّعِ عَارَضَ الْقُرْآنَ، وَإِنَّمَا وَضَعَ حِكَمًا‏)‏‏.‏

‏[‏الْوَجْهُ الثَّانِي‏:‏ التَّأْلِيفُ الْخَاصُّ بِهِ‏]‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّ وَجْهَ الْإِعْجَازِ رَاجِعٌ إِلَى التَّأْلِيفِ الْخَاصِّ بِالْقُرْآنِ بِهِ، لَا مُطْلَقَ التَّأْلِيفِ، وَهُوَ بِأَنِ اعْتَدَلَتْ مُفْرَدَاتُهُ تَرْكِيبًا وَزِنَةً، وَعَلَتْ مُرَكَّبَاتُهُ مَعْنًى، بِأَنْ يُوقِعَ كُلَّ فَنٍّ فِي مَرْتَبَتِهِ الْعُلْيَا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى‏.‏ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي الْبُرْهَانِ‏.‏

‏[‏الْوَجْهُ الثَّالِثُ‏:‏ الْإِخْبَارُ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ‏]‏

الثَّالِثُ‏:‏ مَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ‏}‏ ‏(‏الْفَتْحِ‏:‏ 16‏)‏، وَقَوْلِهِ فِي ‏(‏قِصَّةِ‏)‏ أَهْلِ بَدْرٍ‏:‏ ‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 45‏)‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا‏}‏ ‏(‏الْفَتْحِ‏:‏ 27‏)‏، وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 55‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الم غُلِبَتِ الرُّومُ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 1 وَ 2‏)‏ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ فَوَقَعَ‏.‏

وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي لَا خَبَرَ فِيهَا بِذَلِكَ لَا إِعْجَازَ فِيهَا؛ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ كُلَّ سُورَةٍ مُعْجِزَةً بِنَفْسِهَا‏.‏

‏[‏الْوَجْهُ الرَّابِعُ‏:‏ مَا تَضَمَّنَ مِنْ إِخْبَارِهِ عَنْ قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَسَائِرِ الْمُتَقَدِّمِينَ‏]‏

الرَّابِعُ‏:‏ مَا تَضَمَّنَ مِنْ إِخْبَارِهِ عَنْ قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَسَائِرِ الْمُتَقَدِّمِينَ، الْقُرْآنُ حِكَايَةَ مَنْ شَاهَدَهَا وَحَضَرَهَا، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا‏}‏ الْآيَةَ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 49‏)‏‏.‏ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا سَبَقَ، نَعَمْ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ، لَا أَنَّهُ مُنْحَصِرٌ فِيهِ‏.‏

‏[‏الْوَجْهُ الْخَامِسُ‏:‏ إِخْبَارُهُ عَنِ الضَّمَائِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ‏]‏

الْخَامِسُ‏:‏ إِخْبَارُهُ عَنِ الضَّمَائِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 122‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ‏}‏ ‏(‏الْمُجَادَلَةِ‏:‏ 8‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ‏}‏ الْآيَةَ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 7‏)‏ وَكَإِخْبَارِهِ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أَبَدًا‏.‏

‏[‏الْوَجْهُ السَّادِسُ‏:‏ التَّحَدِّي إِنَّمَا وَقَعَ بِنَظْمِهِ وَصِحَّةِ مَعَانِيهِ وَتَوَالِي فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ‏]‏

السَّادِسُ‏:‏ وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَالْحُذَّاقُ- وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي نَفْسِهِ- وَأَنَّ التَّحَدِّيَ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا وَقَعَ بِنَظْمِهِ، وَصِحَّةِ مَعَانِيهِ، وَتَوَالِي فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ، وَوَجْهُ إِعْجَازِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحَاطَ بِالْكَلَامِ كُلِّهِ عِلْمًا؛ فَإِذَا تَرَتَّبَتِ اللَّفْظَةُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ بِإِحَاطَتِهِ أَيَّ لَفْظَةٍ تَصْلُحُ أَنْ تَلِيَ الْأُولَى، وَيَتَبَيَّنُ الْمَعْنَى بَعْدَ الْمَعْنَى، ثُمَّ كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ‏.‏ وَالْبَشَرُ مَعَهُمُ الْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ وَالذُّهُولُ، وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ لَا يُحِيطُ بِذَلِكَ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْعَرَبَ كَانَ فِي قُدْرَتِهَا الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُرِفُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَجَزُوا عَنْهُ‏.‏

وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ فِي قُدْرَةِ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَلِهَذَا تَرَى الْبَلِيغَ يُنَقِّحُ الْخُطْبَةَ أَوِ الْقَصِيدَةَ حَوْلًا، ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهَا، فَيُغَيِّرُ فِيهَا، وَهَلُمَّ جَرًّا‏.‏ وَكِتَابُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَوْ نُزِعَتْ مِنْهُ لَفْظَةٌ، ثُمَّ أُدِيرَ لِسَانُ الْعَرَبِ عَلَى لَفْظَةِ أَحْسَنَ مِنْهَا لَمْ تُوجَدْ‏.‏

وَنَحْنُ تَتَبَيَّنُ لَنَا الْبَرَاعَةُ فِي أَكْثَرِهِ، وَيَخْفَى عَلَيْنَا وَجْهُهَا فِي مَوَاضِعَ، لِقُصُورِنَا عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ فِي سَلَامَةِ الذَّوْقِ، وَجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ‏.‏

وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَالَمِ بِالْعَرَبِ؛ إِذْ كَانُوا أَرْبَابَ الْفَصَاحَةِ وَمَظِنَّةَ الْمُعَارَضَةِ، كَمَا قَامَتِ الْحُجَّةُ فِي مُعْجِزَةِ عِيسَى بِالْأَطِبَّاءِ، وَمُعْجِزَةِ مُوسَى بِالسَّحَرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْوَجْهِ الشَّهِيرِ أَبْرَعَ مَا تَكُونُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ الَّذِي أَرَادَ إِظْهَارَهُ فَكَانَ السِّحْرُ فِي مُدَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدِ انْتَهَى إِلَى غَايَتِهِ، وَكَذَا الطِّبُّ فِي زَمَانِ عِيسَى، وَالْفَصَاحَةُ فِي مُدَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

‏[‏الْوَجْهُ السَّابِعُ الْفَصَاحَةُ وَغَرَابَةُ الْأُسْلُوبِ‏]‏

السَّابِعُ‏:‏ أَنَّ وَجْهَ الْإِعْجَازِ فِي الْقُرْآنِ الْفَصَاحَةُ، وَغَرَابَةُ الْأُسْلُوبِ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مُقْتَرِنًا بِالتَّحَدِّي، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ؛ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا سَبَقَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 88‏)‏ وَالْمُرَادُ‏:‏ بِمِثْلِ نَظْمِهِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 23‏)‏ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ الضَّمِيرَ فِي ‏(‏مِنْ مِثْلِهِ‏)‏ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ضَعِيفٌ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 13‏)‏ وَالسِّيَاقُ وَاحِدٌ‏.‏

‏[‏الْوَجْهُ الثَّامِنُ مَا فِيهِ مِنَ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّرْصِيفِ‏]‏

الثَّامِنُ‏:‏ مَا فِيهِ مِنَ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّرْصِيفِ، فِي الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ جَمِيعِ وُجُوهِ النَّظْمِ الْمُعْتَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمُبَايِنٌ لِأَسَالِيبِ خِطَابَاتِهِمْ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلِهَذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ مُعَارَضَتُهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ الَّتِي ادَّعَوْهَا فِي الشِّعْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَخْرُقُ الْعَادَةَ، بَلْ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّدْرِيبِ وَالتَّصَنُّعِ لَهُ، كَقَوْلِ الشِّعْرِ، وَرَصْفِ الْخُطَبِ، وَصِنَاعَةِ الرِّسَالَةِ، وَالْحِذْقِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَلَهُ طَرِيقٌ يُسْلَكُ، فَأَمَّا شَأْوُ نَظْمِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ لَهُ مِثَالٌ يُحْتَذَى عَلَيْهِ، وَلَا إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ، وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ مِثْلِهِ اتِّفَاقًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ أَظْهَرُ، وَفِي بَعْضٍ أَدَقُّ وَأَغْمَضُ‏.‏

ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي‏:‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ مَا الَّذِي وَقَعَ التَّحَدِّي بِهِ‏؟‏ أَهُوَ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ‏؟‏ أَوِ الْكَلَامُ الْقَائِمُ بِالذَّاتِ‏؟‏ أَوْ غَيْرُهُ‏؟‏

قُلْنَا‏:‏ الَّذِي تَحَدَّاهُمْ بِهِ أَنْ يَأْتُوا عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ نَظْمُ الْقُرْآنِ مَنْظُومَةً حِكَمُهَا مُتَتَابِعُهَا كَتَتَابُعِهَا، مُطَّرِدَةٌ كَاطِّرَادِهَا، وَلَمْ يَتَحَدَّهُمْ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِالْكَلَامِ الْقَدِيمِ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ‏:‏ لَيْسَ الْإِعْجَازُ الْمُتَحَدَّى بِهِ إِلَّا فِي النَّظْمِ، لَا فِي الْمَفْهُومِ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ لَمْ يُمْكِنِ الْإِحَاطَةُ بِهِ، وَلَا الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْمُرَادِ مِنْهُ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُتَحَدَّى بِمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ يَسَعُ كُلَّ شَيْءٍ، فَأَيُّ شَيْءٍ قُوبِلَ بِهِ ادَّعَى أَنَّهُ غَيْرُ الْمُرَادِ، وَيَتَسَلْسَلُ‏.‏

‏[‏الْوَجْهُ التَّاسِعُ أَنَّ الْإِعْجَازَ يُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ‏]‏

التَّاسِعُ‏:‏ أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ السَّكَّاكِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي ‏(‏الْمِفْتَاحِ‏)‏‏:‏ وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ الْإِعْجَازِ يُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ، كَاسْتِقَامَةِ الْوَزْنِ تُدْرَكُ، وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا، وَكَالْمَلَاحَةِ‏.‏ وَكَمَا يُدْرَكُ طِيبُ النَّغَمِ الْعَارِضِ لِهَذَا الصَّوْتِ، وَلَا طَرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِهِ لِغَيْرِ ذَوِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ إِلَّا بِإِتْقَانِ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالتَّمَرُّنِ فِيهِمَا‏.‏

وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ فِي ‏(‏الْبَصَائِرِ‏)‏‏:‏ لَمْ أَسْمَعْ كَلَامًا أَلْصَقَ بِالْقَلْبِ، وَأَعْلَقَ بِالنَّفْسِ مِنْ فَصْلٍ تَكَلَّمَ بِهِ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَارِسِيُّ، وَكَانَ بَحْرًا فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَوْضِعِ الْإِعْجَازِ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ‏:‏ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا حَيْفٌ عَلَى الْمُفْتَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِقَوْلِكَ‏:‏ مَا مَوْضِعُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ‏؟‏ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِنْسَانِ؛ بَلْ مَتَى أَشَرْتَ إِلَى جُمْلَتِهِ فَقَدْ حَقَّقْتَهُ، وَدَلَّلْتَ عَلَى ذَاتِهِ، كَذَلِكَ الْقُرْآنُ لِشَرَفِهِ لَا يُشَارُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا وَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى آيَةً فِي نَفْسِهِ، وَمَعْجَزَةً لِمُحَاوِلِهِ، وَهُدًى لِقَائِلِهِ؛ وَلَيْسَ فِي طَاقَةِ الْبَشَرِ الْإِحَاطَةُ بِأَغْرَاضِ اللَّهِ فِي كَلَامِهِ وَأَسْرَارِهِ فِي كِتَابِهِ، فَلِذَلِكَ حَارَتِ الْعُقُولُ وَتَاهَتِ الْبَصَائِرُ عِنْدَهُ‏.‏

‏[‏الْوَجْهُ الْعَاشِرُ أَنَّ الْإِعْجَازَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اسْتَمَرَّتِ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ‏]‏

الْعَاشِرُ‏:‏ وَهُوَ قَوْلُ حَازِمٍ فِي ‏(‏مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ‏)‏‏:‏ إِنَّ الْإِعْجَازَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اسْتَمَرَّتِ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ الْقُرْآنُ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي جَمِيعِهِ اسْتِمْرَارًا لَا تُوجَدُ لَهُ فَتْرَةٌ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَكَلَامُ الْعَرَبِ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِمْ لَا تَسْتَمِرُّ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ فِي جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي الْعَالِي مِنْهُ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الْمَعْدُودِ ثُمَّ تَعْرِضُ الْفَتَرَاتُ الْإِنْسَانِيَّةُ فَتَقْطَعُ طَيِّبَ الْكَلَامِ وَرَوْنَقَهُ، فَلَا تَسْتَمِرُّ لِذَلِكَ الْفَصَاحَةُ فِي جَمِيعِهِ، بَلْ تُوجَدُ فِي تَفَارِيقَ وَأَجْزَاءٍ مِنْهُ، وَالْفَتَرَاتُ فِي الْفَصَاحَةِ تَقَعُ لِلْفَصِيحِ، إِمَّا بِسَهْوٍ يَعْرِضُ لَهُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهِ، أَوْ مِنْ جَهْلٍ بِهِ، أَوْ مِنْ سَآمَةٍ تَعْتَرِي فِكْرَهُ، أَوْ مِنْ هَوًى لِلنَّفْسِ يَغْلِبُ عَلَيْهَا فِيمَا يَحُوشُ عَلَيْهَا خَاطِرُهُ، مِنِ اقْتِنَاصِ الْمَعَانِي سَمِينًا كَانَ أَوْ غَثًّا، فَهَذِهِ آفَاتٌ لَا يَخْلُو مِنْهَا الْإِنْسَانُ الْفَاضِلُ وَالطَّبْعُ الْكَامِلُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ وَابْنُ عَطِيَّةَ‏.‏

‏[‏الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ أَنَّ وَجْهَ الْإِعْجَازِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ‏]‏

الْحَادِي عَشَرَ‏:‏ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِهِ- وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّظَرِ‏:‏ إِنَّ وَجْهَ الْإِعْجَازِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ، لَكِنْ لَمَّا صَعُبَ عَلَيْهِمْ تَفْصِيلُهَا صَغَوْا فِيهِ إِلَى حُكْمِ الذَّوْقِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ النَّفْسِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَجْنَاسَ الْكَلَامِ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَرَاتِبَهَا فِي دَرَجَةِ الْبَيَانِ مُتَفَاوِتَةٌ، فَمِنْهَا الْبَلِيغُ الرَّصِينُ الْجَزْلُ، وَمِنْهَا الْفَصِيحُ الْقَرِيبُ السَّهْلُ، وَمِنْهَا الْجَائِزُ الطَّلْقُ الرَّسْلُ، وَهَذِهِ أَقْسَامُ الْكَلَامِ الْفَاضِلِ الْمَحْمُودِ‏.‏ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَعْلَاهُ، وَالثَّانِي أَوْسَطُهُ، وَالثَّالِثُ أَدْنَاهُ وَأَقْرَبُهُ، فَحَازَتْ بَلَاغَاتُ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ حِصَّةً، وَأَخَذَتْ مَنْ كُلِّ نَوْعِ شُعْبَةً، فَانْتَظَمَ لَهَا بِامْتِزَاجِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ نَمَطٌ مِنَ الْكَلَامِ يَجْمَعُ صِفَتَيِ الْفَخَامَةِ وَالْعُذُوبَةِ، وَهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فِي نُعُوتِهِمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْعُذُوبَةَ نِتَاجُ السُّهُولَةِ، وَالْجَزَالَةُ وَالْمَتَانَةُ يُعَالِجَانِ نَوْعًا مِنَ الْوُعُورَةِ؛ فَكَانَ اجْتِمَاعُ الْأَمْرَيْنِ فِي نَظْمِهِ مَعَ نُبُوِّ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ فَضِيلَةً خُصَّ بِهَا الْقُرْآنُ، لِيَكُونَ آيَةً بَيِّنَةً لِنَبِيِّهِ‏.‏

وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَى الْبَشَرِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ لِأُمُورٍ آيِ الْقُرْآنِ‏:‏

مِنْهَا؛ أَنَّ عِلْمَهُمْ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَوْضَاعِهَا الَّتِي هِيَ ظُرُوفُ الْمَعَانِي، وَلَا تُدْرِكُ أَفْهَامُهُمْ جَمِيعَ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَلَا تَكْمُلُ مَعْرِفَتُهُمْ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ وُجُوهِ النُّظُومِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ ائْتِلَافُهَا وَارْتِبَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، فَيَتَوَصَّلُوا بِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ عَنِ الْأَحْسَنِ مِنْ وُجُوهِهَا، إِلَّا أَنْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ‏.‏

وَإِنَّمَا يَقُومُ الْكَلَامُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ‏:‏ لَفْظٌ حَامِلٌ، وَمَعْنًى بِهِ قَائِمٌ، وَرِبَاطٌ لَهُمَا نَاظِمٌ‏.‏

وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْقُرْآنَ وَجَدْتَ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْهُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ؛ حَتَّى لَا تَرَى شَيْئًا مِنَ الْأَلْفَاظِ أَفْصَحَ وَلَا أَجْزَلَ وَلَا أَعْذَبَ مِنْ أَلْفَاظِهِ، وَلَا تَرَى نَظْمًا أَحْسَنَ تَأْلِيفًا وَأَشَدَّ تَلَاؤُمًا وَتَشَاكُلًا مَنْ نَظْمِهِ‏.‏ وَأَمَّا مَعَانِيهِ فَكُلُّ ذِي لُبٍّ يَشْهَدُ لَهُ بِالتَّقْدِيمِ فِي أَبْوَابِهِ، وَالرُّقِيِّ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِهِ‏.‏

وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْفَضَائِلُ الثَّلَاثُ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ، وَأَمَّا أَنْ تُوجَدَ مَجْمُوعَةً فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ فَلَمْ تُوجَدْ إِلَّا فِي كَلَامِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ‏.‏

فَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا صَارَ مُعْجِزًا لِأَنَّهُ جَاءَ بِأَفْصَحِ الْأَلْفَاظِ فِي أَحْسَنِ نُظُومِ التَّأْلِيفِ، مُضَمَّنًا أَصَحَّ الْمَعَانِي، مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ فِي صِفَاتِهِ، وَدُعَاءٍ إِلَى طَاعَتِهِ، وَبَيَانٍ لِطَرِيقِ عِبَادَتِهِ فِي تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ، وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ، وَمِنْ وَعْظٍ وَتَقْوِيمٍ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ وَإِرْشَادٍ إِلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَزَجْرٍ عَنْ مَسَاوِيهَا وَاضِعًا كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا مَوْضِعَهُ الَّذِي لَا يُرَى شَيْءٌ أَوْلَى مِنْهُ، وَلَا يُتَوَهَّمُ فِي صُورَةِ الْعَقْلِ أَمْرٌ أَلْيَقُ بِهِ مِنْهُ مُودِعًا أَخْبَارَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَمَا نَزَلَ مِنْ مَثُلَاتِ اللَّهِ بِمَنْ عَصَى وَعَانَدَ مِنْهُمْ، مُنْبِئًا عَنِ الْكَوَائِنِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فِي الْأَعْصَارِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الزَّمَانِ، جَامِعًا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُجَّةِ وَالْمُحْتَجِّ لَهُ، وَالدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَوْكَدَ لِلُزُومِ مَا دَعَا إِلَيْهِ، وَإِنْبَاءً عَنْ وُجُوبِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ‏.‏

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ أَشْتَاتِهَا حَتَّى تَنْتَظِمَ وَتَتَّسِقَ، أَمْرٌ تَعْجِزُ عَنْهُ قُوَى الْبَشَرِ، وَلَا تَبْلُغُهُ قُدْرَتُهُمْ، فَانْقَطَعَ الْخَلْقُ دُونَهُ، وَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ، وَمُنَاقَضَتِهِ فِي شَكْلِهِ، ثُمَّ صَارَ الْمُعَانِدُونَ لَهُ يَقُولُونَ مَرَّةً‏:‏ إِنَّهُ شِعْرٌ لَمَّا رَأَوْهُ مَنْظُومًا، وَمَرَّةً إِنَّهُ سِحْرٌ لَمَّا رَأَوْهُ مَعْجُوزًا عَنْهُ، غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ‏.‏ وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَ لَهُ وَقْعًا فِي الْقَلْبِ، وَقَرْعًا فِي النَّفْسِ، يُرِيبُهُمْ وَيُحَيِّرُهُمْ، فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِهِ نَوْعًا مِنَ الِاعْتِرَافِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا‏:‏ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً‏.‏ وَكَانُوا مَرَّةً لِجَهْلِهِمْ وَحَيْرَتِهِمْ يَقُولُونَ‏:‏ ‏{‏أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 5‏)‏ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ صَاحِبَهُمْ أُمِّيٌّ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُمْلِي أَوْ يَكْتُبُ شَيْئًا؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَوْجَبَهَا الْعِنَادُ وَالْجَهْلُ وَالْعَجْزُ‏.‏

وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ مَرَدَتِهِمْ، وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، أَنَّهُ لَمَّا طَالَ فِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ وَكَثُرَ ضَجَرُهُ مِنْهُ، وَضَرَبَ لَهُ الْأَخْمَاسَ مِنْ رَأْيِهِ فِي الْأَسْدَاسِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ ‏(‏الْمُدَّثِّرِ‏:‏ 25‏)‏ عِنَادًا وَجَهْلًا بِهِ، وَذَهَابًا عَنِ الْحُجَّةِ، وَانْقِطَاعًا دُونَهَا‏.‏

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَمُودَ الْبَلَاغَةِ الَّتِي تَجْتَمِعُ لَهَا هَذِهِ الصِّفَاتُ هُوَ وَضْعُ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا فُصُولُ الْكَلَامِ مَوْضِعَهُ الْأَخَصَّ الْأَشْكَلَ بِهِ، الَّذِي إِذَا أُبْدِلَ مَكَانَهُ غَيْرُهُ جَاءَ مِنْهُ، إِمَّا تَبَدُّلُ الْمَعْنَى الَّذِي يَفْسُدُ بِهِ الْكَلَامُ، أَوْ إِذْهَابُ الرَّوْنَقِ الَّذِي تَسْقُطُ بِهِ الْبَلَاغَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ أَلْفَاظًا مُتَرَادِفَةً مُتَقَارِبَةَ الْمَعَانِي فِي زَعْمِ أَكْثَرِ النَّاسِ، كَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالشُّحِّ وَالْبُخْلِ، وَالنَّعْتِ وَالصِّفَةِ، وَكَذَا بَلَى وَنَعَمْ، وَمَنْ وَعَنْ، وَنَحْوُهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ؛ وَالْأَمْرُ فِيهَا عِنْدَ الْحُذَّاقِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ لَفْظَةٍ مِنْهَا خَاصَّةً تَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ صَاحِبَتِهَا فِي بَعْضِ مَعَانِيهَا، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي بَعْضِهَا‏.‏

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏ ‏(‏الْمَاعُونِ‏:‏ 5‏)‏ إِنَّهُ الَّذِي يَنْصَرِفُ وَلَا يَدْرِي عَنْ شَفْعٍ أَوْ وَتْرٍ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْحَسَنُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ‏}‏ فَلَمْ يُفَرِّقْ أَبُو الْعَالِيَةِ بَيْنَ ‏(‏فِي‏)‏ وَ ‏(‏عَنْ‏)‏ حَتَّى تَنَبَّهَ لَهُ الْحَسَنُ وَقَالَ‏:‏ الْمُرَادُ بِهِ إِخْرَاجُهَا عَنْ وَقْتِهَا‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَهَلَّا جَعَلَ فِي كُلِّ سُورَةٍ نَوْعًا مِنَ الْأَنْوَاعِ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مَنْ جَمَعَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةَ الْمَعَانِي فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، وَفِي الْآيِ الْمَجْمُوعَةِ الْقَلِيلَةِ الْعَدَدِ، لِيَكُونَ أَكْثَرَ لِفَائِدَتِهِ، وَأَعَمَّ لِمَنْفَعَتِهِ، وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُ قَبِيلٌ، وَلِكُلِّ مَعْنًى سُورَةٌ مُفْرَدَةٌ، لَمْ تَكْثُرْ عَائِدَتُهُ، وَلَكَانَ الْوَاحِدُ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُنْكِرِينَ وَالْمُعَانِدِينَ إِذَا سَمِعَ السُّورَةَ لَا تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِهِ إِلَّا فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ الْوَاحِدَةُ فَقَطْ، وَكَانَ فِي اجْتِمَاعِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ أَوْفَرَ حَظًّا، وَأَجْدَى نَفْعًا مِنَ التَّخْيِيرِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ‏.‏

قَالَ الْخَطَّابِيُّ‏:‏ وَقُلْتُ‏:‏ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَجْهًا ذَهَبَ عَنْهُ النَّاسُ وَهُوَ صَنِيعُهُ بِالْقُلُوبِ، وَتَأْثِيرُهُ فِي النُّفُوسِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْمَعُ كَلَامًا غَيْرَ الْقُرْآنِ مَنْظُومًا وَلَا مَنْثُورًا إِذَا قَرَعَ السَّمْعَ خَلَصَ لَهُ إِلَى الْقَلْبِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْحَلَاوَةِ فِي حَالٍ، وَمِنَ الرَّوْعَةِ وَالْمَهَابَةِ فِي حَالٍ أُخْرَى مَا يَخْلُصُ مِنْهُ إِلَيْهِ‏.‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْحَشْرِ‏:‏ 21‏)‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 23‏)‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَلِهَذَا أَسْلَمَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ لَمَّا سَمِعَ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلطُّورِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ‏}‏ ‏(‏الطُّورِ‏:‏ 7‏)‏ قَالَ‏:‏ خَشِيتُ أَنْ يُدْرِكَنِي الْعَذَابُ‏.‏ وَفِي لَفْظٍ‏:‏ كَادَ قَلْبِي يَطِيرُ، فَأَسْلَمَ‏.‏ وَفَى أَثَرٍ آخَرَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا سَمِعَ سُورَةَ طه أَسْلَمَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ كِتَابًا فِيمَنْ مَاتَ بِسَمَاعِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ‏.‏

‏[‏الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ أَنَّ الْإِعْجَازَ وَقَعَ بِجَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَقْوَالِ لَا بِكُلِّ وَاحِدٍ عَنِ انْفِرَادِهِ‏]‏

الثَّانِي عَشَرَ‏:‏ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ‏:‏ إِنَّ الْإِعْجَازَ وَقَعَ بِجَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَقْوَالِ، لَا بِكُلِّ وَاحِدٍ عَنِ انْفِرَادِهِ؛ فَإِنَّهُ جَمَعَ كُلَّهُ، فَلَا مَعْنًى لِنِسْبَتِهِ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِمُفْرَدِهِ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْجَمِيعِ، بَلْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَسْبِقْ‏.‏

فَمِنْهَا الرَّوْعَةُ الَّتِي لَهُ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ وَأَسْمَاعِهِمْ، سَوَاءٌ الْمُقِرِّينَ وَالْجَاحِدِينَ، ثُمَّ إِنَّ سَامِعَهُ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ يُدَاخِلُهُ رَوْعَةٌ فِي أَوَّلِ سَمَاعِهِ وَخَشْيَةٌ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَجِدُ فِي قَلْبِهِ هَشَاشَةً إِلَيْهِ، وَمَحَبَّةً لَهُ، وَإِنْ كَانَ جَاحِدًا وَجَدَ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ الرَّوْعَةِ نُفُورًا وَعِيًّا؛ لِانْقِطَاعِ مَادَّتِهِ بِحُسْنِ سَمْعِهِ‏.‏

وَمِنْهَا؛ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ غَضًّا طَرِيًّا فِي أَسْمَاعِ السَّامِعِينَ، وَعَلَى أَلْسِنَةِ الْقَارِئِينَ‏.‏

وَمِنْهَا؛ مَا يَنْتَشِرُ فِيهِ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ مِنْ إِنْزَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ فِي صُورَةِ كَلَامٍ هُوَ مُخَاطَبَةٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ تَارَةً، وَمُخَاطَبَةٌ أُخْرَى لِخَلْقِهِ، لَا فِي صُورَةِ كَلَامٍ يَسْتَمْلِيهِ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ قَدْ قُذِفَ الْوَحْيُ فِي قَلْبِهِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا شَاءَ أَنْ يُلْقِيَهُ إِلَى عِبَادِهِ عَلَى لِسَانِهِ، فَهُوَ يَأْتِي بِالْمَعَانِي الَّتِي أُلْهِمَهَا بِأَلْفَاظِهِ الَّتِي يَكْسُوهَا إِيَّاهُ، كَمَا يُشَاهَدُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ‏.‏

وَمِنْهَا؛ جَمْعُهُ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَزَالَةِ وَالْعُذُوبَةِ الْقُرْآنُ وَهُمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ، لَا يَجْتَمِعَانِ غَالِبًا فِي كَلَامِ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّ الْجَزَالَةَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا بِمَا يَشُوبُهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَبَعْضِ الْوُعُورَةِ، وَالْعُذُوبَةَ مِنْهَا مَا يُضَادُّهَا مِنَ السَّلَاسَةِ وَالسُّهُولَةِ، فَمَنْ نَحَا نَحْوَ الصُّورَةِ الْأُولَى فَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْفَخَامَةَ وَالرَّوْعَةَ فِي الْأَسْمَاعِ، مِثْلُ الْفُصَحَاءِ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَفُحُولِ الشُّعَرَاءِ مِنْهُمْ، وَمَنْ نَحَا نَحْوَ الثَّانِيَةِ قَصَدَ كَوْنَ الْكَلَامِ فِي السَّمَاعِ أَعْذَبَ وَأَشْهَى وَأَلَذَّ، مِثْلُ أَشْعَارِ الْمُخَضْرَمِينَ وَمَنْ دَانَاهُمْ مِنَ الْمُوَلِدِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ‏.‏ وَتَرَى أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ قَدْ جَمَعَتْ فِي نَظْمِهِ كِلْتَا الصِّفَتَيْنِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ وَالْإِعْجَازِ‏.‏

وَمِنْهَا جَعْلُهُ آخِرَ الْكُتُبِ غَنِيًّا عَنْ غَيْرِهِ، الْقُرْآنُ وَجَعْلُ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 76‏)‏

فَصْلٌ فِي قَدْرِ الْمُعْجِزِ مِنَ الْقُرْآنِ

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ‏:‏ ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي كُتُبِهِ، إِلَى أَنَّ أَقَلَّ مَا يُعْجَزُ عَنْهُ مِنَ الْقُرْآنِ السُّورَةُ قَصِيرَةً كَانَتْ أَوْ طَوِيلَةً، أَوْ مَا كَانَ بِقَدْرِهَا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ بِقَدْرِ حُرُوفِ سُورَةٍ وَإِنْ كَانَتْ كَسُورَةِ الْكَوْثَرِ فَذَلِكَ مُعْجِزٌ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ فِي أَقَلِّ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ‏.‏

وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ بِرَأْسِهَا فَهِيَ مُعْجِزَةٌ‏.‏ وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ نَحْوُ قَوْلِنَا، إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَ الْآيَةِ بِقَدْرِ السُّورَةِ، بَلْ شَرَطَ الْآيَاتِ الْكَبِيرَةَ‏.‏

وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ تَحَدِّيًا إِلَى السُّوَرِ كُلِّهَا، وَلَمْ يَخُصَّ‏.‏ وَلَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُعْجِزٌ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ‏}‏ ‏(‏الطُّورِ‏:‏ 34‏)‏ فَلَا يُخَالِفُ هَذَا؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ التَّامَّ لَا تَتَحَصَّلُ حِكَايَتُهُ فِي أَقَلِّ مِنْ كَلِمَاتِ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ‏.‏ وَهُوَ يُؤَكِّدُ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ‏}‏ عَلَى الْقَبِيلِ دُونَ التَّفْصِيلِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَلْ يُعْرَفُ إِعْجَازُ السُّوَرِ الطِّوَالِ‏؟‏ وَهَلْ يُعْرَفُ إِعْجَازُ كُلِّ قَدْرٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَلَغَ الْحَدَّ الَّذِي قَدَّرْتُمُوهُ عَلَى مَا تَعْرِفُونَ بِهِ إِعْجَازَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَنَحْوِهَا‏؟‏‏.‏

قُلْنَا‏:‏ إِنَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ قَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ سُورَةٍ قَدْ عُلِمَ كَوْنُهَا مُعْجِزَةً بِعَجْزِ الْعَرَبِ عَنْهَا‏.‏ وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْكُبَرَاءِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ يَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ ذَلِكَ تَوْقِيفًا، وَالطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَسَدُّ، وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُمَا فِي أَنَّ الْأُولَى تُبَيِّنُ أَنَّ مَا عُلِمَ بِهِ كَوْنُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ سُورَةٍ؛ قَصُرَتْ أَوْ طَالَتْ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْكُلِّ وَاحِدًا‏.‏ وَالْأُخْرَى تَتَضَمَّنُ تَقْدِيرَ مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكْنَاهَا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏فِي التَّحَدِّي‏]‏

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَحَدَّاهُمْ أَوَّلًا فِي الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 88‏)‏ ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ وَقَطَعَ عُذْرَهُمْ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 13‏)‏ وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ ‏(‏مُفْتَرَيَاتٍ‏)‏ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ لَا عِلْمَ لَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْخَالِيَةِ، وَالْقَصَصِ الْبَالِغَةِ، فَقِيلَ لَهُمْ‏:‏ ‏(‏مُفْتَرَيَاتٍ‏)‏ إِزَاحَةً لِعِلَلِهِمْ، وَقَطْعًا لِأَعْذَارِهِمْ، فَعَجَزُوا، فَرَدَّهُمْ مِنَ الْعَشْرِ إِلَى سُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، مُبَالَغَةً فِي التَّعْجِيزِ لَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 23‏)‏ أَيْ يَشْهَدُونَ لَكُمْ أَنَّهَا فِي نَظْمِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَجَزَالَتِهِ؛ فَعَجَزُوا‏.‏

فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 24‏)‏ مُبَالَغَةً فِي التَّعْجِيزِ وَإِفْحَامًا لَهُمْ‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا النَّارَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 24‏)‏ وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَعِيدِ، مَعَ أَنَّ اللُّغَةَ لُغَتُهُمْ، وَالْكَلَامَ كَلَامُهُمْ، وَنَاهِيكَ بِذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ سَيِّدَ قُرَيْشٍ، وَأَحَدَ فُصَحَائِهِمْ لَمَّا سَمِعَهُ أُخْرِسَ لِسَانُهُ، وَبَلُدَ جَنَانُهُ، وَأُطْفِئَ بَيَانُهُ، وَقُطِعَتْ حُجَّتُهُ، وَقُصِمَ ظَهْرُهُ، وَظَهَرَ عَجْزُهُ، وَذَهَلَ عَقْلُهُ، حَتَّى قَالَ‏:‏ قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ هَزَجَهُ وَرَجَزَهُ وَقَرِيضَهُ، وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ، فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ، قَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ‏:‏ فَسَاحِرٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَمَا هُوَ بِسَاحِرٍ، قَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلَا عُقَدِهِ، وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطُلَاوَةً، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلَى، سَمِعْتُ قَوْلًا يَأْخُذُ الْقُلُوبَ‏.‏ قَالُوا‏:‏ مَجْنُونٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، وَلَا بِخَنْقِهِ وَلَا بِوَسْوَسَتِهِ وَلَا رِعْشَتِهِ، قَالُوا‏:‏ كَاهِنٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكُهَّانِ وَلَا بِسَجْعِهِمْ‏.‏ ثُمَّ حَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَكَابَرَ حِسَّهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ ‏(‏الْمُدَّثِّرِ‏:‏ 24 وَ 25‏)‏

مَسْأَلَةٌ‏:‏ ‏[‏التَّحَدِّي إِنَّمَا وَقَعَ لِلْإِنْسِ دُونَ الْجِنِّ‏]‏

التَّحَدِّي إِنَّمَا وَقَعَ لِلْإِنْسِ دُونَ الْجِنِّ؛ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ الْجِنَّ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى أَسَالِيبِهِ؛ وَإِنَّمَا ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 88‏)‏ تَعْظِيمًا لِإِعْجَازِهِ؛ لِأَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَهَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلْأَفْرَادِ فَإِذَا فُرِضَ اجْتِمَاعُ جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَظَاهَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَعَجَزُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ كَانَ الْفَرِيقُ الْوَاحِدُ أَعْجَزَ، وَنَظِيرُهُ فِي الْفِقْهِ تَقَدُّمُ الْأَخِ الشَّقِيقِ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ؛ مَعَ أَنَّ الْأُمُومَةَ لَيْسَ لَهَا مَدْخَلٌ فِي النِّكَاحِ‏.‏

فَصْلٌ فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْلَمُ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ ضَرُورَةً

قَالَ الْقَاضِي‏:‏ ذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِلَى أَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلَمُ ضَرُورَةً، وَكَوْنُهُ مُعْجِزًا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ يُحْكَى عَنِ الْمُخَالِفِينَ‏.‏

وَالَّذِي نَقُولُهُ‏:‏ إِنَّ الْأَعْجَمِيَّ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ إِعْجَازَهُ إِلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ بِبَلِيغٍ، فَأَمَّا الْبَلِيغُ الَّذِي أَحَاطَ بِمَذَاهِبِ الْعَرَبِ وَغَرَائِبِ الصَّنْعَةِ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ ضَرُورَةَ عَجْزِهِ وَعَجْزِ غَيْرِهِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ‏.‏

مَسْأَلَةٌ‏:‏ ‏[‏فِي الْحِكْمَةِ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشِّعْرِ‏]‏

قِيلَ‏:‏ لِلْحِكْمَةِ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشِّعْرِ وُجُوهٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنِ الشُّعَرَاءِ بِأَنَّهُمْ ‏{‏فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 225- 226‏)‏ وَأَنَّ لِلشِّعْرِ شَرَائِطَ لَا يُسَمَّى الْإِنْسَانُ بِغَيْرِهَا شَاعِرًا، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الشَّاعِرِ، فَقَالَ‏:‏ إِنْ هَزَلَ أَضْحَكَ، وَإِنْ جَدَّ كَذَبَ، فَالشَّاعِرُ بَيْنَ كَذِبٍ وَإِضْحَاكٍ‏.‏ فَنَزَّهَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَنْ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ، وَعَنْ كُلِّ أَمْرٍ دَنِيءٍ، وَإِنَّا لَا نَكَادُ نَجِدُ شَاعِرًا إِلَّا مَادِحًا ضَارِعًا، أَوْ هَاجِيًا ذَا قَذْعٍ، وَهَذِهِ أَوْصَافٌ لَا تَصْلُحُ لِلنَّبِيِّ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ أَهْلَ الْعَرُوضِ مُجْمِعُونَ كَمَا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ صِنَاعَةِ الْعَرُوضِ وَصِنَاعَةِ الْإِيقَاعِ، إِلَّا أَنَّ صِنَاعَةَ الْإِيقَاعِ تُقَسِّمُ الزَّمَانَ بِالنَّغَمِ، وَصِنَاعَةَ الْعَرُوضِ تُقَسِّمُهُ بِالْحُرُوفِ الْمُتَنَوِّعَةِ، فَلَمَّا كَانَ الشِّعْرُ ذَا مِيزَانٍ يُنَاسِبُ الْإِيقَاعَ، وَالْإِيقَاعُ ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَاهِي، لَمْ يَصْلُحْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ‏:‏ لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي‏.‏

وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْفَاظِ الْوَزْنِ، فَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الشِّعْرَ، وَمِنْ حَقِيقَةِ الشِّعْرِ قَصْدُهُ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ‏:‏ الشِّعْرُ كَلَامٌ مَوْزُونٌ مُقَفًّى دَالٌّ عَلَى مَعْنًى، وَيَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ بَيْتٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ اتِّفَاقُ شَطْرٍ وَاحِدٍ بِوَزْنٍ يُشْبِهُ وَزْنَ الشِّعْرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ كَانَ إِذَا أَنْشَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ غَيَّرَهُ‏.‏